Scroll down
احتجاز الكربون لاقتصاد محايد كربونيًا
يتردد على مسامعنا اعتقاد سائد بأن احتجاز الكربون هو السبيل الأول والأخير لتحقيق حياد صفري، وهذا ليس بالأمر البسيط، فالجهود المطلوبة لا يستهان بها.
لا يوجد حل واحد لخفض الكربون بالكامل، حيث يستعدي الأمر الاستعانة بباقة واسعة من التقنيات والحلول ونماذج الأعمال الجديدة ومنها احتجاز الكربون الذي قد يتبين أنه طريقة جدية لحل هذه المعضلة، فهو يحث على استخدام مصادر الطاقة المتجددة ويدفع عجلة الاقتصاد الدائري ويعزز كفاءة الطاقة، إضافة إلى ذلك فإن احتجاز ثاني أكسيد الكربون وتخزينه بشكل آمن يمثل تحدٍّ لوجستي هائل ولا بد من رسم الخطوات القادمة وما يجب فعله للتصدي لهذه المشكلة.
رغم الاعتماد المتزايد على الطاقة المتجددة ومواد البناء الصديقة للبيئة، لا يزال اقتصاد العالم أجمع يعتمد إلى حد كبير على ممارسات تنتج كميات كبيرة جدًا من الكربون لتصنيع الاسمنت والفولاذ أو استخراج النفط والغاز الطبيعي، وللنجاح في عكس آثار التغير المناخي لا بد أن نسعى جاهدين إلى تقليل انبعاثات الكربون الناجمة عن هذه الصناعات الثقيلة، وهنا يأتي دور احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه.
وعلى الرغم من علمنا جيدًا بأننا بحاجة إلى الاعتماد أكثر على التقنية بما يشمل جميع المجالات والقطاعات، إلا أن ذلك يشكل تحدياً بحد ذاته، وعلينا فهم بعض مشاريع احتجاز الكربون الجارية لندرك أكثر جدوى تطبيق هذه التقنية على نطاق واسع.
كيف يتم احتجاز الكربون؟
إنّ احتجاز الكربون عبارة عن منع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن العمليات الصناعية أو توليد الطاقة من دخول الغلاف الجوي، وذلك إما عبر تخزينه أو عبر استخدامه ضمن عمليات أخرى.
وفي حين أن احتجاز الكربون يعتبر عملية تقنية معقدة لنا إلا أن الفكرة مستمدة من قلب الطبيعة، حيث تمتص النباتات والمحيطات أكثر من نصف فائض ثاني أكسيد الكربون الناتج عن النشاط البشري، وهو أمر كان يحدث قبل ظهور البشر بكثير، مما يؤكد ما اكتشفه العلماء مؤخرًا لمخزونًا كبيرًا من ثاني أكسيد الكربون محتجزًا في هضبة كولورادو تحت جبال روكي في أمريكا الشمالية يزيد عمره عن مليون عام.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هناك ثلاث طرق رئيسية لاحتجاز الكربون وهي: إما إزالة ثاني أكسيد الكربون بعد الاحتراق وهو النهج الشائع حالياً في محطات الطاقة ويُستخدم على نطاق واسع في مختلف التطبيقات الصناعية، أو استخراج ثاني أكسيد الكربون قبل الاحتراق عن طريق الاحتراق الجزئي للوقود الأحفوري، أو احتراق الوقود بالأكسجين النقي وهو ما ينتج عنه نفايات تتكون في الغالب من ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء.
كيف تبدو عملية احتجاز الكربون حاليًا؟
بحسب المعهد العالمي لاحتجاز الكربون وتخزينه، يجري العمل حاليًا على 30 مشروعاً لاحتجاز الكربون على نطاق واسع حول العالم فضلاً عن 11 مشروعاً آخر قيد الإنشاء و153 قيد التطوير، ويبلغ إجمالي السعة السنوية لهذه المشاريع الآن 244 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون في زيادة تبلغ نسبتها 44% على مدى الأشهر الأثني عشر الأخيرة، ومن ضمن هذه المشاريع مشروع لشركة الفنار للمشاريع نعمل من خلاله على إنشاء مصنع لإنتاج وقود الطائرات المستدام والذي سيستعين بشكلٍ كبير من البنية التحتية المجهزة لاحتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه في المملكة المتحدة بحلول 2035، وبفضل التمويل من وزارة النقل البريطانية، فإنه باستطاعة مشروع إنتاج الوقود الأخضر هذا أن يُسهم في تلبية 10% من احتياجات المملكة المتحدة من وقود الطائرات المستدام بحلول 2030 فضلاً عن توفير 900 فرصة عمل واستقطاب استثمارات إلى المنطقة بقيمة مليار جنيه إسترليني، وهو ما يثبت قيمة هذه التقنية وبإمكاناتها الواعدة.
ومن الأمثلة العملية على احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه يُذكر مشروع شركة أرامكو السعودية الذي يعمل على الاستخراج المعزز للنفط عبر حقن ثاني أكسيد الكربون في محطتي العثمانية والحوية للغاز الطبيعي المسال، وهو المشروع الأول من نوعه في الشرق الأوسط بقدرة احتجاز تصل إلى قرابة 40 مليون قدم مكعب من ثاني أكسيد الكربون يومياً يتم تخزينه بعد ذلك داخل أربعة آبار للحقن، ومن المُقدر لهذه المشاريع أن تُشكل جزءًا مهماً من اقتصاد الكربون الدائري الذي أعلن عنه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود على هامش استضافة المملكة العربية السعودية فعاليات قمة مجموعة العشرين.
وعلى أي حال، وبالرغم من نجاح مشاريع مثل الاستخراج المعزز للنفط، فإنه لا يزال تطبيق احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه على نطاق أوسع يكتسي بتحديات بالغة.
هل احتجاز الكربون مجدٍ اقتصادياً؟
من أبرز العراقيل التي تحول دون نجاح احتجاز الكربون هي كلفته الباهظة، علمًا أنّ هذه الأخيرة تختلف اختلافاً شاسعًا بين قطاع وآخر ، فبحسب أرقام وكالة الطاقة الدولية، فإن تكلفة الالتقاط الهوائي المباشر حالياً تتراوح ما بين 130 و345 دولارًا أمريكيًا للطن، إلا أنها تنخفض إلى ما بين 40 و100 دولارا فقط للطن في قطاع إنتاج الحديد والصلب وما بين 15 و25 دولاراً للطن في قطاع معالجة الغاز الطبيعي، كما يُرجح أن تختلف تكلفة احتجاز أكثر من 34 مليار طن من الانبعاثات الصادرة سنويًا عن حرق الوقود الأحفوري اختلافًا كبيرًا من قطاع لآخر، ومن الجائز جدًا أن تتبدّل هذه الأرقام فيما تشهد هذه التقنية المزيد من التحسينات ولو كان احتجاز الكربون لا يزال بعيد المنال بالنسبة إلى الكثيرين غير أنّ تاريخ الطاقة المتجددة الحديث يقدم لنا وجهة نظر جديدة، حيث أدى اتساع نطاق اعتماد احتجاز الكربون على مدى العقد المنصرم إلى انخفاض ملحوظ في تكاليفه.
وبالطبع فإنه لا تترتب التكلفة عينها على جميع تطبيقات احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه، إذ تشير وكالة الطاقة الدولية إلى اختلاف بارز في تكاليف كل من طرق احتجاز الكربون التي تختلف جدواها بحسب القطاع المعني، ففي قطاع إنتاج الإسمنت مثلًا يَنتج ثلثا الانبعاثات حالياً عن تفاعلات كيميائية مرتبطة بتسخين الحجر الجيري، وقد يؤدي اللجوء لتقنية احتجاز الكربون قبل الاحتراق إلى زيادة التكلفة بحوالي الـ10%، في حين أنّ استخدام أساليب أخرى قد يزيد التكلفة بما يصل إلى 70%، ما يجعل احتجاز الكربون الخيار الأكثر فعالية من حيث التكلفة.
هل احتجاز الكربون مجدٍ لوجستياً؟
بينما يقدم احتجاز الكربون فائدة قيّمة للصناعات التي تنتج الكربون بكميات كبيرة، إلا أن شكوكاً كثيرة تحيط بإمكانية توسيع استخدام هذه التقنية على نحوٍ فعال، حيث تشير بعض التقديرات إلى أنه على مشاريع احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه أن تصبح أكبر بـ120 ضعفاً لتصل إلى 4,2 جيجا طن على الأقل لكي تحقق المستوى اللازم من خفض الانبعاثات حول العالم، ولتحقيق ذلك لا بد من أن تنخفض تكاليف هذه التقنية وأن تساهم الحكومات في هذه المساعي بتقديمها الدعم المالي أو غير ذلك من أساليب الدعم.
ولعلّ أبرز ما يبعث فينا روح التفاؤل هو تقرير صادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي الذي يشير إلى تزايد جهود التعاون عبر مختلف مستويات سلسلة القيمة المعنية باحتجاز الكربون من جهات متعاقدة ومالكة ومستثمرة سعيًا للتوصل إلى أفضل سُبل الاستعانة بالحوافز الحكومية وتأمين التمويل، وقد ركّز هذا التقرير بوجه خاص على أهمية الشراكة بين شركات التقنية وموردي الأنابيب والمضخات في الحد فعليًا من تأثيرات المشاريع الكبرى بنسبة تصل إلى 30% في بعض الحالات.
الحد من آثار تغير المناخ المدمرة
فيما تواصل قطاعات الصناعة والجهات الحكومية ومختلف جهات التطوير حول العالم دعمها وتبنيها الإمكانات التقنية، لا بد أن تنخفض تكاليف احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه للحد من آثار تغير المناخ المدمرة، غير أن ذلك لن يحصل إلا عندما يصبح تطبيق هذه التقنية ممكنًا على أوسع نطاق، ومن هنا استطاعت شركة الفنار التقدم بمراحل في تطوير مشاريعها الطموحة واسعة النطاق بفضل ما تمتلكه من خبرات فعلية واسعة في العمل بالتعاون مع القطاع العام، ومنها تعاونها مع حكومة المملكة المتحدة.